مفهوم الجودة : اعتبارا للأهمية المركزية لهذا الموضوع ،فقد جعل منه الميثاق الوطني للتربية والتكوين إحدى مجالاته التجديدية في ارتباط مع : ـ تجديد وإعادة بناء المناهج والكتب المدرسية ـ إعادة تنظيم الإيقاعات المدرسية والبيداغوجية ـ تحسين تدريس اللغات والتفتح على الإعلام والتكنولوجيا الحديثة.
فما المقصود بالجودة؟ وما مدلولها في حقل التربية والتعليم؟ هل هي مفهوم تربوي أو مفهوم تسرب إلى حقل التربية والتعليم من مجالات أخرى؟ وبأي معنى يمكن الحديث عن جودة في مجال التربية والتعليم؟
إن الجودة في أي منتوج كيفما كان اقتصاديا أم ثقافيا أم تربويا ،هي : درجة من الإتقان شديدة الصلة بمعنى الكمال المثالي في المجال المقاولاتي الذي يستهدف بمنهجية أسلوبه وتخطيط أهدافه، تحصيل أقصى النتائج المتميزة بصفر خطأ في العمل المقدم والمشروع المنجز.
وبصفر هدر في الوقت والمواد الأولية المستعملة استغلال الوسائل والمعدات في أقصى طاقاتها المتاحة والمفكر فيها بتفعيلها لانتزاع أقصى عطائها. بالإضافة إلى استثمار المجهودات البشرية في التدبير والتسيير والتواصل
وهذا التعريف يقدم لنا مفهوما اقتصاديا مقاولاتيا للجودة، وهو تعريف يدل على أن مفهوم الجودة قد تسرب من المجال الاقتصادي والصناعي وتم إسقاطه على مجالات أخرى بما فيها مجال التربية والتعليم.
فالجودة بمفهومها الاقتصادي تمثل عنصرا حيويا من عناصر التنافسية التي تقتضيها السوق، وهي جودة يمكن قياسها من أجل معرفة الفارق بين الإنجازات ( النتائج ) والمنطلقات ( الأهداف ) بواسطة مؤشرات ترصد مدى مطابقة هذه الإنجازات لمعايير محددة أو عدم مطابقتها لذلك..
فالأمر يتعلق بعملية مراجعة أو ترشيد لأداء المؤسسة الإنتاجية لإنجاز العمل بشكل جيد في المرة الأولى وفي جميع المرات بصفر خطأ أو عيب. لأ ن العيوب الناتجة عن عدم الجودة تكون مكلفة بالنسبة للمؤسسة وتسبب لها ضياعا يمكن تجنبه. فهذا الضياع يعتبر عائقا يحول دون تنافسية المقاولة، ويحد من فرص الشغل وتحقيق الربح.
ولقد تكيفت المؤسسات / المقاولات تدريجيا مع مقاربات للجودة تسمح بتقديم منتوجات مطابقة لانتظارات الزبناء، “ فمن مقاربات تعتمد : المراقبة النهائية لمطابقة المنتوجات خلال الأربعينات من القرن العشرين إلى مقاربة تعتمد الطرق الإحصائية خلال سنوات الستينات، مرورا بمقاربة تأمين الجودة خلال الثمانينات ،
إلى طرق تدبير الجودة مع بداية القرن الواحد والعشرين، وبالأخص مقاربة الجودة الشاملة التي هي نمط من تدبير المقاولة يتمركز حول الجودة ويتأسس على مشاركة كل موظفي المؤسسة، ويهدف إلى تحقيق النجاح على المدى البعيد عن طريق إرضاء كل الشركاء.
وبما أن مفهوم الجودة مستقى من المجال الاقتصادي، فكيف ينعكس على المجال التربوي والتعليمي؟ وكيف يمكن انتقاء مفهوم ذي دلالة مادية وإسقاطه على مجال ذي حمولة تربوية ومعرفية وفكرية؟. وهل ممكن أن تستجيب لمقاربة هذه الجودة مؤسسات التربية والتكوين؟ وهل يستوعب مجال التربية والتعليم هذه الترسانة من المفاهيم؟
في سياق الإجابة على هذه التساؤلات، لا بد من التذكير بأن الجودة أصبحت إحدى الرهانات الأساسية لإصلاح المنظومة التربوية ببلادنا، وقد جعل منها الميثاق الوطني للتربية والتكوين إحدى مجالاته لتحقيق التغيير والتجديد.
ولكي يتحقق هذا التغيير أو التجديد، فإن الأمر يفرض على كل المؤسسات التربوية أن تجعل من الجودة العمود الفقري لكل أنشطتها بالاستناد إلى مبادئ الجودة في إنجاز المهام التربوية بنفس الكيفية المعتمدة في المجال الاقتصادي والمقاولاتي، وذلك بجعل المؤسسة التربوية أكثر إنتاجية.
علاقة الجودة بالتقويم المؤسساتي : إن تحقيق الجودة في المؤسسة التربوية يتطلب منهجية وإجراءات عملية، وبمقتضى آليات محددة يشارك فيها الفاعلون داخل هذه المؤسسة من أساتذة وإداريين وتلاميذ. ولذلك فإن التقويم المؤسساتي يتوقف على التحديد الدقيق للمواصفات التي يكون توفرها في نشاط من أنشطة التعلم دليلا على إتقانه وجودته، حيث يمكن ملاحظته فيما ينتجه المتعلمون من إبداعات وإنجازات، سواء كانت في صيغة معارف أم مهارات.
ومن المؤكد أن تحقيق الجودة تساهم فيه الإدارة التربوية أيضا ، لكونها فاعلا مساهما في مشروع المؤسسة، ومخططا لاستراتيجية التغيير ومدبرا ومنظما لها ،فهي قوة اقتراحية ومورد بشري ينشط الحياة المدرسية ويعطيها الفعالية، وبهذا فإن مسؤوليتها تتجلى أيضا في الارتقاء بجودة التعليم داخل المؤسسة التعليمية من خلال الخدمات التي تقدمها للتلاميذ.
فالجودة ، من زاوية التقويم المؤسساتي وفي ارتباط معه ،لا يمكن أن تتحقق إلا في إطار مشروع المؤسسة، ذلك أن العلاقة بين الجودة والتقويم تتجسد من خلال هذا المشروع. فالتقويم يشكل عملية هامة ينبني عليها مشروع المؤسسة الذي يعد نمطا لتنظيم الفعل التربوي عن قرب ونقله إلى مستوى أفضل.
فتضمن للتلميذ نجاحا أفضل وتعمل على تصحيح التعثر الدراسي وملء الفراغات الموجودة في مردوديته معرفيا ومهاريا وكفائيا، وتؤهله لمواجهة الاستحقاقات المختلفة في حياته الدراسية ( فروض، امتحانات ) وتحسين أدائه وإنجازاته.
من هنا فإن العلاقة بين الجودة والتقويم المؤسساتي ،هي علاقة تلازم ، ينبغي تفعيلها لتنظيم الفعل التربوي والتعليمي بشكل معقلن وهادف، وإثارة الوعي لدى الفاعلين داخل المؤسسة بمهامهم في الارتقاء بالجودة وتحسين نتائج التلاميذ خاصة المتعثرين منهم، وذلك من خلال تخطيط وتنفيذ جماعيين.
وكذلك بالتكيف أكثر مع حاجات التلاميذ وانتظاراتهم حتى تصبح المؤسسة فضاء اعتزاز وتأهيل، ما دامت قيمتها رهينة بخدماتها وإنتاجيتها التي تدعم لدى التلاميذ روح المواطنة وتولد لديهم سلوكات الانضباط الذاتي عوض الضبط والزجر، وتخلق عندهم الميل إلى الالتزام بدل الإلزام والإكراه،
نستخلص من خلال ما سبق أن التقويم المؤسساتي صار اليوم وسيلة لتحقيق الجودة متجلية في مردودية التلميذ معرفيا ومهاريا. ولا يمكن الكلام عن تقويم مؤسساتي يحقق الجودة في غياب التخطيط ووضع الأهداف والتنسيق والتشاور والتفاعل بين الأطراف المتدخلة التي يشترط فيها التوفر على جودة في التكوين التربوي والعلمي..
شكرا على حسن المتابعة